ما حكم الامتناع عن دفن موتى كورونا؛ فقد فوجئنا بامتناع البعض عن دفن المتوفين من جراء وباء كورونا؛ حتى إن بعض أهالي قرية من القرى تجمهروا رافضين دفن إحدى طبيبات القرية في مدفن أسرتها، بعد أن توفيت؛ بسبب مباشرتها المستمرة لعلاج مرضى كورونا، حتى تدخلت قوات الأمن وأنهت المشكلة، وتم الدفن بالفعل، فهل يجوز الامتناع عن دفن من ماتوا بسبب هذا الوباء بحجة أن دفنهم سيعدي الأماكن من حولهم؟
التصدي بالتجمهر لمنع دفن المتوفين بمرض كورونا هو من الأفعال المحرمة الشنيعة والمواقف المُشينة والأساليب الغوغائية الخارجة عن مقتضى الإنسانية؛ لأن فيها تَعَدِّيا على حقوق الآدمية، وفتحًا لباب فتنة وشر، ويجب على المواطنين التصدي لأصحابها، والأخذ على أيديهم بالحسم والحزم؛ إنكارًا لتصرفاتهم السيئة، التي لا تمتُّ بأدنى صلة إلى دين أو خلق أو قيم؛ فالحذر من العدوى لا يكون ببثّ شائعات مغرضة لا زمام لها ولا خطام، بل لذلك وسائله التي بينها المختصون، ولا يجوز للإنسان أن يحرم أخاه، من حق منحه مولاه إياه، بأن يُدفن في أرض الله، والميت بالوباء شهيد، ويتضاعف حقه إذا كان طبيبًا مات بسبب علاج المصابين بالوباء، ويجب على من حضر دفنهم أن يتعامل مع جثثهم بموفور الاحترام وغاية التكريم، وأن يسارعوا إلى دفنهم بالطريقة الشرعية المعهودة مع اتباع كافة الإجراءات والمعايير الصحية التي وضعتها الجهات المختصة لضمان أمن وسلامة المشرفين والحاضرين، بما يضمن عدم انتشار الفيروس إلى المشاركين في عملية الدفن، وعلى الجميع أن يتناصحوا وأن يتراحموا وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يكونوا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ؛ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه.
المحتويات
جعل الله تعالى أهم مظاهر تكريم الإنسان بعد خروج روحه: التعجيلَ بتغسيلِه، وتكفينِه، والصلاةِ عليه، ودفنِه، وهذا ما أجمعت عليه أمة الإسلام إلى يومنا هذا؛ حتى سمّاها الفقهاء: الأركان الأربعة التي تجب على الحي في حق الميت. وأوجب الله دَفنَ الميت ومُوارَاة بَدَنِهِ؛ إكرامًا للإنسان وصيانة لحرمته وحفظًا لأمانته؛ حتَّى تُمنَع رائحتُه وتُصانَ جُثَّتُه وتُحفَظَ كرامتُه؛ لأن حرمته ميتًا كحرمته حيًّا، وجعله حقًّا مفروضًا لكل ميتٍ، وفرض كفاية على المسلمين: إن قام البعض سقط الإثم عن الباقين، وإن تركوه أثموا جميعًا، وهذا من الأحكام الشرعية القطعية التي دلت عليها أدلة الوحي وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا:
فأما الكتاب: فقد وردت الآيات مصرحةً بأن دفن الميت منة من الله تعالى علَّمها لعباده؛ حفظًا لكرامتهم، وتكريمًا لآدميتهم، وصونًا لحرمتهم، والامتنان أمارة المشروعية؛ فقال تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾ [المائدة: 31]؛ فكان إرسال الغراب إعلامًا بوجوب الدفن؛ قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 301، ط. دار الكتب المصرية): [وأما دفنه في التراب ودسه وستره فذلك واجب؛ لهذه الآية] اهـ بتصرف.
وقال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى﴾ [طه: 55]؛ قال الإمام الماتريدي في تفسيره "تأويلات أهل السنة" (7/ 287، ط. دار الكتب العلمية): [﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ إذا مـتُّمْ، أي: تُقبَرون فيها؛ فيخرج مخرج الامتنان علينا، وذلك لنا خاصة دون غيرنا من الحيوان؛ لئلا نتأذى بهم] اهـ.
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25-26]؛ قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (19/ 161): [أي: ضامّة؛ تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها، وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه] اهـ.
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس: 21]؛ فامتن الله على الإنسان بذكر إقباره؛ إكرامًا له ومنعًا من إهانته، فكان الدفن واجبًا حتى تتم المنة به، قال الإمام السيوطي في "الإكليل في استنباط التنزيل" (ص: 281، ط. دار الكتب العلمية): [فيه: وجوب دفن الموتى] اهـ.
وأما الإجماع: فقد نقله أصحاب المذاهب المتبوعة جميعًا، بل نُقِل عليه إجماع البشر كلهم.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 318، ط. دار الكتب العلمية): [الدليل على وجوبه: توارث الناس من لدن آدم صلوات الله عليه إلى يومنا هذا مع النكير على تاركه، وذا دليل الوجوب] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (1/ 244، ط. مطبعة الحبي): [وأجمَعوا على وجوبِ الدَّفنِ] اهـ.
وقال الإمام ابن المنذر الشافعي في "الإجماع" (ص: 44، ط. دار المسلم): [وأجمعوا على أن دفن الميت لازم واجب على الناس، لا يسعهم تركُه عند الإمكان] اهـ.
وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 539، ط. دار إحياء التراث العربي): [حَمْله ودفْنه فرضُ كفايةٍ إجماعًا] اهـ.
لم تكتف الشريعة بفرض حق الدفن للميت، حتى شددت على سرعة استيفائه، ودعت إلى المبادرة بأدائه؛ حفظًا لكرامته وصونًا لحرمته؛ فأجمعت الأمة على مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لما ورد من الأمر النبوي المؤكد بسرعة بدفن الميت والنهي عن التباطؤ أو التلكؤ فيه، وعلى ذلك مضى عمل الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم؛ حتى حمل بعضُ الفقهاء ذلك على الوجوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» متفق عليه.
قال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى بالآثار" (3/ 382، ط. دار الفكر): [ويجب الإسراع بالجنازة، ونستحب أن لا يزول عنها من صلى عليها حتى تدفن، فإن انصرف قبل الدفن: فلا حرج، ولا معنى لانتظار إذن ولي الجنازة. أما وجوب الإسراع: فلِمَا رُوِّينَاهُ من طريق مسلم.. فذكر الحديث ثم قال: وهو عمل الصحابة، كما رُوِّينَا من طريق أحمد بن شعيب.. عن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: "لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنا لنكاد نَرمُلُ بالجنازة رَملًا"] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدامة المقدسي الحنبلي في "المُغني" (2/ 352، ط. مكتبة القاهرة): [لا خلاف بين الأئمة رحمهم الله في استحباب الإسراع بالجنازة، وبه وردَ النَّص] اهـ. وقال أيضًـــا (2/ 337): [قال أحمد: كَرامَةُ الميتِ تَعجِيلُهُ] اهـ.
وروى الإمام أبو داود في "السنن": أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال: «إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْتُ؛ فَآذِنُونِي بِهِ وَعَجِّلُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ».
قال الإمام الطيبي في "شرح المشكاة" (4/ 1376، ط. مكتبة الباز): [قوله: «لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ»: وصف مناسب للحكم بعدم الحبس؛ وذلك أن المؤمن عزيز مكرم، فإذا استحال جيفة ونتنا استقذره النفوس وتنبو عنه الطباع فيهان، فينبغي أن يسرع فيما يواريه، فيستمر على عزته؛ فذكر الجيفة ها هنا كذكر السوأة في قوله تعالى: ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾، السوأة: الفضيحة؛ لقبحها] اهـ.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ» أخرجه الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وإسناده حسن؛ كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 184، ط. دار المعرفة): [قال القرطبي: "مقصود الحديث: أن لا يُتَبَاطَأَ بالميتِ عن الدفن"] اهـ.
وعن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يَا عَلِيُّ، ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلاَةُ إِذَا آنَتْ، وَالجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفْؤًا» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، والترمذي وابن ماجه في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، والضياء في "المختارة".
وقال الزبير بن العوام رضي الله عنه: "إنما كرامة الميت تعجيلُه" رواه ابن شبة في "تاريخ المدينة".
وقال أيوب السختياني: "كان يقال: مِن كرامة الميت على أهله تعجيلُه إلى حُفرَتِه" رواه ابن أبي الدنيا.
وقال أبو الصدِّيق الناجي: "إن كان الرجل لينقطع شِسْعُهُ في الجنازة، فما يدركها أو ما كاد أن يدركها" رواه ابن أبي شيبةَ في "المُصنف".
وقد بالغت الشريعة المطهرة في استيفاء حق الدفن للميت وقدمته على ما عداه؛ حتى خفَّفت لأجله صلاة الجنازة؛ فلم تجعل لها أذانًا ولا إقامة، ولا ركوعًا ولا سجودًا، ولم تشرع بعد الفاتحة فيها قراءةً، واستثنت أداءها في أوقات الكراهة.
وأفتى جماعةٌ من الفقهاء بمشروعية صلاة الجنازة على من مات قبل صلاة الجمعة دون انتظار الجمعة، وأن فريضة الجمعة تسقط عن أهله ومن يتبعهم ويصلونها ظهرًا؛ لضرورة الإسراع بالجنازة؛ قال الإمام ابن الحاج المالكي في "المدخل" (2/ 220، ط. دار التراث): [وقد وردت السنة أن من إكرام الميت تعجيلَ الصلاةِ عليه ودفنِه. وقد كان بعض العلماء رحمه الله ممن كان يحافظ على السنة إذا جاءوا بالميت إلى المسجد، صلى عليه قبل الخطبة، ويأمر أهله أن يخرجوا إلى دفنه ويعلمهم أن الجمعة ساقطة عنهم إن لم يدركوها بعد دفنه، فجزاه الله خيرا عن نفسه على محافظته على السنة والتنبيه على البدعة، فلو كان العلماء ماشين على ما مشى عليه هذا السيدُ لانسدَّتْ هذه الثُّلْمةُ التي وقعت] اهـ.
وقال العلَّامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (1/ 602، ط. دار الكتب العلمية): [وقد جرت عادة الناس في هذا الزمان بتأخير الجنائز إلى بعد الجمعة، فينبغي التحذير عن ذلك. وقد حكى ابن الرفعة: أنَّ الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما ولي الخطابة بجامع مصر كان يصلي على الجنازة قبل الجمعة، ويفتي الحمَّالين وأهل الميت بسقوط الجمعة عنهم؛ ليذهبوا بها. بل ينبغي أن يُراد بهم: كل من يشق عليه التخلف عن تشييعه منهم] اهـ.
وقد علَّق على ذلك العلَّامة الحصني الدمشقي الشافعي في "كفاية الأخيار" (ص: 142، ط. دار الخير) فقال: [وقد صرح بذلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وهي مسألةٌ حَسَنة] اهـ.
وظهر هذا في فتاوى الفقهاء التي انصبت على تحقيق مقصد الإسراع بالجنازة؛ فأجاز بعضهم التيمم مع وجود الماء إذا خيف فواتُها، وأن الإمام إن تذكر صلاة فائتة وهو في صلاة الجنازة لم يقطعها ولم يُعِدْها.
ومع أن مصلحة الحي ترجح على مصلحة الميت عند التعارض إلا أن الشرع جعل حق الميت في الدفن مقدمًا على ضمان دين صاحب المال، فلم يبح لصاحب الدين أن يمنع دفن المدين لاستيفاء دينه، فإن فعل ذلك استحق العقوبة، واستوجب التعزير، فكيف بمن يدعو لذلك إثمًا وجهلًا وعدوانًــا!؛ قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (6/ 335، ط. دار الكتب العلمية): [فلو مات المحبوس وجب إخراجه من حبسه ودفعه إلى أهله ليتولوا كفنه ودفنه، وليس للغرماء أن يمنعوا من دفنه، فإن مَنَعُوا نُهُوا، فإن انتَهَوْا وإلا عُزِّرُوا] اهـ.
وقال العلامة الدميري في "النجم الوهاج" (10/ 187، ط. دار المنهاج): [فإذا مات.. أُخرج ودُفِعَ لأهله ليَتَوَلَّوْه، وليس لغرمائه منعُ دفنه، فإن منعوه.. عُزِّرُوا] اهـ
المشاركة في أداء حق الموتى بالدفن وغيره من أسباب الأجر والثواب والقبول والمغفرة عند الله تعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ»، قيل: وما القيراطان؟ قال: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ»، وفي رواية للبخاري: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ».
وعن أبي رافع أسلم رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَكَتَمَ عَلَيْهِ غُفِرَ لَهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً، وَمَنْ كَفَّنَ مَيِّتًا كَسَاهُ اللهُ مِنَ السُّنْدُسِ وَإِسْتَبْرَقِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ حَفَرَ لِمَيِّتٍ قَبْرًا فَأَجَنَّهُ فِيهِ أُجْرِيَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَأَجْرِ مَسْكَنٍ أُسْكِنَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» رواه الطبراني في "المعجم الكبير" بإسناد رجالُه رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الدمياطي في "المتجر الرابح"، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
المتوفى بوباء كورونا شهيد عند الله؛ لأنه مبطون، والمبطون شهيد؛ لشدة ما يلقاه، من ألم ومعاناة، صابرًا محتسبًا على بلواه، حتى يلقى وجه الله، فحرمته عند الله أشد، وحقه على الناس أوجب، فإذا كان من الأطباء المرابطين، الذين يتعاملون مع المرضى والمصابين، ويضحون براحتهم وأرواحهم من أجل سلامة المواطنين، ويواجهون الخطر والموت في كل وقت وحين: فإنه أولى بالامتنان والاحترام، وأجدر بالإشادة والإكرام؛ فإن الأطباء جيش مصر الأبيض وجنود المرحلة الأوفياء، وأهل التضحية والفداء، الذين يقاتلون بأرديتهم البيضاء، عدوًّا مجهولًا في الخفاء، غير عابئين بأخطار الوباء، فهم بحقٍّ: شهداء الواجب: الذي تفانَوْا في أدائه، وشهداء المرض: الذي يفر الكل من لقائه، وشهداء الوقت: المصطفُّون لصد وبائه، وشهداء الوطن: المضحُّون لحياة أبنائه.
وإذا كان حقُّ الشهيد أعظمَ من حق غيره، فإن المشاركةَ في إيفاء حقوقه -من تكفين وتشييع ودفن وخلافه- أعظمُ أجرًا وأجزلُ ثوابًا عند الله تعالى، وذلك يقتضي أن التفريط فيه أشد إثمًا وأكبر جرمًا؛ لأن الغُنْم بالغرم، فإذا وصل التفريط إلى حد الاعتداء على حقه، ومحاولة منع دفنه في مدفنه، بل والتصدي لذلك والتجمهر له، من غير وازع من دين أو خلق أو ضمير أو مروءة أو نخوة أو شهامة أو إنسانية "تحت دعوى خوف العدوى الوبائية، مع أنه لا خوفَ مع الوسائل الوقائية" فإن هذا التصرف الأهوج -مع افتقاده أدنى ذرة وفاء لمن واجهوا الوباء، واتصافه بالخسة والنذالة مع ذوي الفداء والبسالة- يعد من الفساد والإفساد الذي يُضرَب على يد أصحابه، ويؤخذ كلٌّ منهم بما يستحقه من عقابه، حتى يُرحَمَ الخلقُ مِن شرِّهم، ويكون رَدْعُهم زجرًا لغيرهم، ومنعًا لمن تُسوِّل له نفسُه السَّيْرَ بسيرهم.
وعلى مثل هؤلاء يصدق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا! فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» رواه أبو داود في "السنن"، فمن المعلوم في المجال الصحي أن جثث المتوفين بسبب الأوبئة لا يصرح بالتعامل معها إلا للخبراء المتدربين في مجال الأوبئة، مستخدمين معدات الحماية الشخصية، وقاية لهم من العدوى؛ حيث توضع الجثث بعد تغسيلها في أكياس طبية واقية معدة لها، وتوضع بعد ذلك في تابوت؛ كما في الدليل الميداني لإدارة الجثث بعد وقوع الكوارث؛ الصادر عن منظمة الصحة العالمية (ص: 55-56، ط. جنيف).
كما نص قطاع الطب الوقائي بوزارة الصحة المصرية على ضرورة نقل الجثة بعد الغسل والتكفين داخل الكيس غير المنفذ للسوائل، بعد وضع علامة خطر الإصابة بالعدوى عليه، ويراعى تواجد أقل عدد ممكن بسيارة نقل المتوفى قدر الإمكان، وأن تكون الجثة داخل صندوق مغلق قابل للتنظيف والتطهير، ويجب على المتواجدين الالتزام بارتداء الواقيات الشخصية، ويمنع فتح الصندوق أثناء الصلاة عليه لأي سبب، وعند الدفن يراعى تواجد أقل عدد ممكن عند إدخال الجثة المقبرة، والالتزام التام بالتنظيف والتطهير بعد إتمام إجراءات الدفن، وتطهير كافة الأسطح التي تلامست مع الجثة.
والمعلوم طبيًّا أن الفيروس لا ينتشر ولا يتكاثر إلا في الأوساط والخلايا الحية، عن طريق التنفس والرذاذ والتلامس ونحو ذلك من وسائل انتقال العدوى، ولا يتصور شيء من ذلك بعد الوفاة عند الالتزام بوسائل الحماية، فإذا اتخذت الإجراءات الوقائية اللازمة لم يعد هناك أي خوف من عدوى الوباء.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فالتصدي بالتجمهر لمنع دفن المتوفين بمرض كورونا هو من الأفعال المحرمة الشنيعة والمواقف المُشينة والأساليب الغوغائية الخارجة عن مقتضى الإنسانية؛ لأن فيها تَعَدِّيا على حقوق الآدمية، وفتحًا لباب فتنة وشر، ويجب على المواطنين التصدي لأصحابها، والأخذ على أيديهم بالحسم والحزم؛ إنكارًا لتصرفاتهم السيئة، التي لا تمتُّ بأدنى صلة إلى دين أو خلق أو قيم؛ فالحذر من العدوى لا يكون ببثّ شائعات مغرضة لا زمام لها ولا خطام، بل لذلك وسائله التي بينها المختصون، ولا يجوز للإنسان أن يحرم أخاه، من حق منحه مولاه إياه، بأن يُدفن في أرض الله، والميت بالوباء شهيد، ويتضاعف حقه إذا كان طبيبًا مات بسبب علاج المصابين بالوباء، ويجب على من حضر دفنهم أن يتعامل مع جثثهم بموفور الاحترام وغاية التكريم، وأن يسارعوا إلى دفنهم بالطريقة الشرعية المعهودة مع اتباع كافة الإجراءات والمعايير الصحية التي وضعتها الجهات المختصة لضمان أمن وسلامة المشرفين والحاضرين، بما يضمن عدم انتشار الفيروس إلى المشاركين في عملية الدفن، وعلى الجميع أن يتناصحوا وأن يتراحموا وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يكونوا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ؛ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم التبرع ببلازما الدم؟ فقد أثبتت التجارب العلمية التي أعلنت عنها وزارة الصحة المصرية نجاح علاج المصابين بفيروس كورونا عن طريق حقنهم بالبلازما المستخلصة من دماء المتعافين منه، حيث ظهرت النتائج المبشرة من خلال زيادة نسب الشفاء للمرضى، وتقليل احتياجهم لأجهزة التنفس الصناعي. وبدأت هذه التجارب منذ إعلان هيئة الغذاء والدواء الأمريكية عن إمكانية استخدام البلازما الخاصة بالمرضى المتعافين من فيروس كورونا المستجد في علاج الحالات الحرجة، نظرًا لكونها تحتوي على الأجسام المضادة للفيروس، مما يمنح احتمالية لتحسن تلك الحالات خاصة مع الشواهد البحثية في العديد من دول العالم.
وقد ناشدت وزيرة الصحة المتعافين من فيروس كورونا، التوجه إلى أقرب مركز نقل دم تابع لخدمات نقل الدم القومية بوزارة الصحة والسكان؛ وذلك للتبرع ببلازما الدم، بعد مرور 14 يومًا على شفائهم، حيث تم تفعيل العمل بخمسة مراكز نقل دم على مستوى الجمهورية.
فما حكم تبرع المتعافين من الوباء بالبلازما في هذه الحالة؟ وهل يسوغ لهم الامتناع من التبرع مع المناشدة الوطنية والاستنفار القومي لإنقاذ الأعداد الكثيرة المصابة بوباء كورونا؟
امتازت الشريعة الإسلامية السمحة بمبادئ والتزامات حياتية أوجدها الله سبحانه وتعالى لتيسير أمور البشر وتنظيم أحوالهم، ومعروف لدى الجميع مدى صرامة الإسلام بكل ما يتعلق بحفظ واحترام حقوق المسلم، وقد جاءت النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بتحريم جريمة السرقة وتجريم مرتكبها، وتضمنت عقوبات رادعة في حق السارق.
وبهذا الصدد لا يخفى أن سرقة الملكية الفردية، والعلامات التجارية الأصلية المسجلة، أو الاحتيال عليها لا تقل خطورة عن السرقة بالأساليب والأنماط التي اعتدنا رؤيتها؛ فهي تضر بمصالح أصحابها، وتفوت عليهم فرصة النمو والتطور، فضلًا عن الأضرار التي تلحق بسمعتهم مِن جراء قيام سارقها بخداع المستهلك مع سابق نية.
فما هو الحكم الشرعي في سرقة الملكية الفكرية والعلامات التجارية الأصلية المسجلة من أصحابها؟
وما حكم فتح محلات تجارية والمتاجرة بها، وخداع المواطنين والمستهلكين بأنها العلامة الأصلية؟
وما حكم العمل في تلك المحلات بالنسبة للموظفين؟
وما هو الحكم الشرعي للذين يتعاملون مع سارقي العلامات التجارية؟
وما هي العقوبات التي ترون وجوب اتخاذها بحق سارقها؟
اطلعنا على كتاب مدير العلاقات العامة بوزارة الأوقاف الذي طلب فيه الإفادة بالرأي على ما نشر بجريدة الأخبار ضمن باب يوميات الأخبار بعنوان "قرآن عربي بحروف لاتينية"، وملخص ما نشر بالجريدة المذكورة: أن أحد المحاسبين يقوم بإعداد مشروع يرمي إلى تمكين المسلمين في كل أقطار العالم من قراءة القرآن الكريم وتلاوته تلاوة صحيحة مهما اختلفت جنسياتهم ولغاتهم؛ وذلك عن طريق كتابته بحروف لاتينية تطابق في نطقها النطق العربي السليم للآيات الكريمة مع الاستعانة بتسجيلات صوتية للتلاوة والتفسير يستعين به قارئو الكتاب الكريم، ويقول المحاسب: إن عملية التمويل سيقوم بها بنك الأفكار بالإضافة إلى بعض الحكومات الإسلامية التي تبدي اهتمامها بالإسهام في هذا العمل.
ما حكم استخدام الحامض النووي في نفي وإثبات النسب؛ فقد صرحت المحكمة باستخراج شهادةٍ مِن دار الإفتاء المصرية تفيد أن تجربة الحامض النووي (DNA) تقوم مقام القيافة أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إثبات النسب أو نفيه ويُعتَدُّ بها شرعًا مِن عدمه.
ما حكم الصلاة في البيت لعذر؟ وما الأجر المترتب على ذلك؟ فقد تلقَّينا خبرَ وقف الصلوات في المساجدِ بسبب فيروس كورونا بحزنٍ شديد؛ حيث إننا ولله الحمد والمنَّة من المحافظين على صلاة الجمعة والجماعة في المسجد مهما حدث من ظروف؛ طمعًا في ثوابها وقبولها، والآن حُرِمنا هذه الفضيلة، وقد سمعنا أنه إذا حال بيننا وبين صلاة الجماعة أمرٌ خارجٌ عنا وصلينا في البيت، فحينئذٍ نأخذ أجر الجماعة، فهل هذا صحيح؟
ما حكم بناء المسجد على المقابر المندرسة؟ فعندنا مسجد يضيق بالمصلين ولا توجد به دورة مياه، فقام أهل الحي بتوسيعه ليكون مسجدًا جامعًا يتسع للمصلين وتكون به دورة مياه، ولا يوجد مكان في هذا الحي إلا في البقعة المجاورة للمقبرة الموضحة بخريطة المسجد المرفقة مع نص السؤال، وهذه البقعة خالية وليس بها قبور ولم يثبت أنه دُفِن فيها أحدٌ بالفعل؛ حيث إن أهل الحي منعوا من الدفن في هذه البقعة وقاموا منذ زمن طويل بوضع ثلاثة حواجز لِمنع الدفن فيها نتيجة للرائحة التي يتأذى بها أهل الحي، كما كانت توجد بئر قديمة يسقي منها أهل الحي حدائقهم، ولم يكن يوصَل إلى هذه البئر إلا من خلال المرور بهذه البقعة التي بُنِيَ عليها المسجد الآن، والبئر الآن مهجورة، وهذه البقعة بها ثلاث مغارات كان يلجأ إليها أهل الحي عند نزول المطر والغارات الجوية فيما مضى، ولم يكن يوصَل إلى هذه المغارات إلا من خلال المرور بها؛ مما يدل على عدم وجود مقابر في هذه البقعة التي بُنِيَ عليها المسجد.
علمًا بأن المغارات الثلاث والبئر القديمة ومكان الحواجز الثلاث والمكان الذي بُنِيَ فيه المسجد على هيئة هضبة مجاورة للمقبرة؛ أعلاها يبدأ من البئر القديمة ثم تنحدر هذه الهضبة وتنتهي عند الطريق العمومي كما هو موضح بالخريطة.
كما نوضح لفضيلتكم أن الأرض التي بُنِيَ عليها المسجد الآن ليست من جنس أرض المقابر؛ لأنها كانت قبل بناء المسجد عليها مرتفعةً عن بقية أرض المقبرة كما سبق توضيحه، وقد تم تجريف هذا الارتفاع من الأرض وتسويته تمامًا بالجرافات الآلية، ونُقِلت التربة بعربات النقل حتى أصبحت الأرض التي بُنِيَ عليها المسجد مثلَ غيرها من الأرضين وخرجت عن كونها أرض مقبرة مع عدم ثبوت الدفن فيها، وبعد تسويتها قمنا بوضع قواعد خراسانية فيها ثم رُدِمَت هذه القواعد بتربة رملية، وقد تم بناء المسجد اعتمادًا على المعطيات السابقة والمعلومات الموضحة بالخريطة المرفقة:
أولًا: المسجد محاط بالمقابر من جهتين؛ الشرقية بأكملها تجاه القبلة، والجنوبية بأكملها كما بالخريطة.
ثانيًا: قبل بناء المسجد ترك مُشيِّدوه مسافة على هيئة طريق مسلوك يعتبر فاصلًا بين المسجد والمقبرة؛ أضيقه ثلاثة أمثار وأوسعه ستة أمتار وذلك موضح بالخريطة المرفقة مع نص السؤال.
وبعد ذلك كله فوجئنا بمن امتنع عن الصلاة في هذا المسجد بدعوى أن الأرض التي بُنِيَ المسجد عليها وقفٌ للمقبرة، والمقبرة أقدم من المسجد من حيث المكان، فاعتبروا بذلك أن المسجد مبني على أرض المقبرة، كما جعلوا المجاورة الشديدة بين المسجد والمقبرة من اتخاذ القبور مساجد، واستندوا إلى العظام والرميم التي وُجِدَت أثناء حفر السور وذكروا أنهم سمعوا سائقَ الجرَّافة أو أحد سائقي عربات النقل يذكر أنه رأى عظامًا أثناء تجريف الأرض، وأبدوا احتمالًا بوجود قبر آخر بداخل السور محاذٍ للقبر الذي هو خارج السور المشار إليه برقم (1) في الخريطة، وأنه يمكن أن يكون قد تم نبشه عن طريق الجرافة من غير أن يعلم أحد.
وقد تقصينا الأمر في ذلك وخرجنا بالنتائج التالية:
الأرض التي تم بناء المسجد عليها ليست وقفًا للمقبرة؛ لأنه لم يثبت عندنا لأحد من أهل الحي خاصة وأهل البلد عامة ملك أحد منهم لهذه الأرض، وليس هناك حجة أو قرينة تثبت ذلك من قريب أو بعيد.
أما العظام التي وُجِدت أثناء حفر السور فقد وُجِدَت بعد الانتهاء من بناء المسجد وفي غير المكان الذي بُنِيَ فيه بل في مكان يبعد عنه ستة أمتار كما هو موضح بالخريطة وذلك عند بناء السور الذي يفصل المقبرة عن الطريق والمسجد وليس في البقعة التي تم إحلالها وبناء المسجد فيها، وأما احتمال وجود قبر داخل السور تم نبشه فلم نجد ما يؤيده.
وسألنا سائق الجرَّافة عما نقلوه عنه فأنكر صدوره منه، وأنكر أنه رأى أي رميم أو عظام أثناء قيامه بتجريف الأرض، وحتى على فرض أن أحدًا رأى شيئًا فإن هذه الأرض التي بني فيها المسجد كانت خربة وكان بعض أهل الحي يدفنون فيها بهائمهم الميتة.
فما حكم الصلاة في هذا المسجد؟ وهل تدخل توسعته بذلك في اتخاذ القبور مساجد؟